3 دقائق للقراءة
قبل الحديث عن التمشي النفسي علي أن أشير إلى أن التمشيات المختلفة التي ذكرتها وسأذكرها هي تمشيات متزامنة تقريبا، رغم وجود نسق تتابعي بين بعضها مثل العقلي والذهني والنفسي، ولكن الأمر مرتبط بنوع الضحية: فيمكن أن يبدأ من النفس إلى العقل أو من العقل إلى النفس أو من الحالة الاجتماعية إلى البقية أو تكون التمشيات كلها تتابعية بتباعدات مختلفة قريبة أو بعيدة، لكن الغالب أنها متزامنة تقريبا في أغلب أقسامها -. والتمشي النفسي يطرح إشكالا تزمينيا مهما لأنه يمكن أن يكون المدخل الأول ويمكن أن يتوسط المراحل، لكنه حتما لا يكون في ختامها. فالنفس – وهي كما عرفتها في بحثي ضمن موسوعة البرهان نظام طاقي معلوماتي برمجي يتصل بالذات كحاو لها وبالشخصية كقارئ لها وبالذهن كصلة جامعة بينها وبين العقل، وبالذاكرة كمنبع لكوامنها التفاعلية الحسية وبالشعور كمحفز لها وبها، وبالحواس كصلات لها بالعالم، وبالقيم كمحدد لنوعها في جانب الإيجابية والخيرية أو السلبية والشرّية، وكذلك ينظم كبرى لها – أي أنفس مختلفة – منها ما يحفز على الشر المطلق ومنها ما يدفع للخير المطلق ومنها ما يبحث عن التوازن – في القرآن الكريم نجد الأمارة واللوامة والمطمئنة – وفي تقسيم علم النفس نجد الهو والأنا والأنا الأعلى. ولها صلات بالوعي والإدراك وغير ذلك مما بينت في تفصيل دقيق.
سيبحث العقل المدبر صاحب النفس الخبيثة، على ثغرات في نفس ضحيته ليتمكن من خلالها من زرع ألغامه فيها وبرمجتها، وهو سيحرص على أمر دقيق جدا ” المزج بين تفعيل كلي للنفس السوداء وتلوين ذلك بكل ألوان النفس البيضاء، بمعنى زرع المدنس المطلق وصبغه بصبغة المقدس المطلق، وغرس الشر الكامل وإلباسه أقنعة الخير الكامل، بحيث يصنع نفسا شريرة بشكل تام مع مبررات خيّرة بشكل تام. فيصبح القتل من أجل الله والموت من أجل الرسالة والدين وفي سبيل نصرة الحق وتدمير الحياة من أجل الجنة وقتل البشر من أجل إرضاء رب البشر وتفجير الجسم من أجل تحرير الروح – وهو يلتقي مع مبادئ مازوشية وساديّة تستلذ ألم الذات وألم الآخر في نفس الوقت، ثم بناء طوق لتلك البرمجية مما سأتكلم عنه في جانب ما أسميته بالكُمون، وبنظم حماية الفيروس.
ما ينبغي ذكره في التمشي النفسي هو البحث عن الثغرة المناسبة التي أسميتها “النقاط الفارغة” و “النقاط السوداء”. فأما النقاط الفارغة فهو وجود نقص في جانب معين مثل الحنان والرعاية والاهتمام، أو الحنين إلى الماضي وعدم قدرة الحاضر على تقديم بديل، وغيرها. في حين تكون النقاط السوداء أماكن أزمة في النفس مثل التعرض للظلم أو الاعتداء أو قصة حب فاشلة. ويظن البعض أن ضحية الإرهاب لابد أن يكون من ظرف نفسي قاهر وقاس – وكذلك اجتماعي- ولكن الحقيقة أن ذلك جانب فقط ويمكن لمن تتوفر له كل مقومات الحياة الرغيدة أن يتسرب إليه ذلك المرض العقلـ نفسي من خلال إيجاد طرائق تتصل بنفسه عبر نقاط سوداء مؤلمة أو ناقمة – ومن أخطرها مثلا تعرض شاب للتعذيب زمن الطغيان بسبب معتقده دون وجه حق فذلك يجعل إمكانية تحفيز نفسه نحو المسار الإرهابي كبيرة جدا، أو تعرضه للميز العنصري أو القهر .
للعائلة والمجتمع دور كبير في إيجاد النقاط الفراغية والسوداوية داخل النفس بالحرمان أو الزيادة أو النقصان أي عدم وجود صرامة مناسبة أو حنان لازم، وكذلك عدم وجود إطار اجتماعي وتربوي ملائم يشفي تلك الآلام النفسية ويعوض الحرمان ويملأ نقاط الفراغ ويحوّل النقاط السوداء إلى مرتكزات نحو نقاط بيضاء ناصعة، كل ذلك يجعل من تلك النفس عرضة أكثر لزرع فيروس الإرهاب فيها بعناية ودقة وصبر ومداومة طويلة تحول الشاب تدريجيا إلى آلة قتل دون أن ينبته أقرب الناس إليه، لأن الأمر يكون ضمن ما أسميته “الكُمون”.
التمشي النفسي خطير جدا يبرمج النفس ويزرع فيها قيما مضادة للحياة بصبغة أنها قيمة متناغمة مع مطلب الخالق من مخلوقه. وحين تبرمج تلك النفس مع ما كان من أمر العقل والذهن والفكر، فإن العلاج يزداد كل مرة استحالة.