3 دقائق للقراءة
ينقسم المكان اجتماعيا إلى بيت وحيّ ومدينة ووطن وإقليم وأمة وعالم. المجتمعات مجموعات بشرية جمعها مكان واحد في مسار زمني محدد ضمن حد من الاكتفاء الذاتي. وثمّة تفاعلات وجدانية ونفسية تجعل الانسان يشعر بالأمان في بيته ويذود عن الأرض التي هو فيها لتكون وطنه والوطن مقدّس. وهنالك تعارف تجعله يتفاعل مع أبناء حيّه وأبناء مدينته وأبناء وطنه وأبناء أمته ثم أبناء العالم. هو تثاقف إنساني تفاضلي: أنا وابن عمي على أخي وأنا وأخي على الغريب. غيرة على الأهل ثم على أهل الحي ثم على أهل المدينة ثم على أبناء الوطن الواحد ثم على الأمة. لكن يبقى ذلك ضمن الإطار الإنساني فإن غادره كان احتلال الآخر لنفع الذات وتدمير الدول والأوطان لخدمة الوطن وهو طغيان وفساد عانت منه الانسانية وكان حتى ضمن البعد القبلي. ويكون ضمن المكان مفهومي التعارف والغرابة، فأنت تثق في من تعرف وتتعامل بحذر مع الغريب. ثم تتعرف على من تحب أن تعرف وتتعارف معه ضمن مشترك بينكما. وهنالك البعد الثقافي للمكان من لهجة معينة ولغة محددة ودين مشترك وأبعاد حضارية كثيرة من مأكل وملبس وتشاكل في الشبه واللون وسوى ذلك.
العقل الإرهابي يحطّم كل ذلك، فلا وجود لمكان جامع، لا لبيت ولا لحي ولا لوطن ولا لشيء من ذلك. لا تعارف ولا تجانس ولا تثاقف ولا مشترك مطلقا سوى أمر واحد: أخوة في الله. وتحت هذه الأخوة يكون الأخ قريبا من الأخ الآخر حتى لو لم يكن يعرفه أو لا يعرف عنه شيئا ولا يشترك معه في ثقافة أو طن. ويكون الخارج عن ذلك غريبا ولو كان أخا شقيقا أو أبا أو ابن حي وقرية ومدينة ووطن. يتم تغييب المكان كليا فلا معنى للوطن ولا معنى لتونسي أو مغربي أو استرالي. وهنا يكون التشبيه الايهامي بالصحابة وأخوتهم التي غابت فيها كل الفواصل والفوارق فهم أخوة في الله فحسب، رغم أن الواقع التاريخي يشهد على حفاظ كل صحابي بذاته وعلى حفاظهم جميعا على مقوماتهم فالمهاجر مهاجر والأنصاري أنصاري وحين تكلم المهاجرون قبل غزوة بدر تكلم الانصار أيضا (سعد بن معاذ)، ويوم الفتح تكلم الأنصار فجمعهم النبي وخطب فيهم حتى أبكاهم ورجع معهم. بل واختلفوا بينهم أحيانا لأنهم لم يفقدوا ذواتهم واستقلاليتهم في الرأي ووجهة النظر مع لزوم الطاعة لله ورسوله واجتناب الشقاق، وحادثة السقيفة شاهد.
المكان في العقل المخترق من الإرهاب هو مكان تخييلي وليس مكانا معيّنا: الجنة حين تضيق الأمكنة، او أرض الخلافة الموعودة حين يستوجب الرحيل عن الأهل والوطن فلا إشكال حينها أن يقاتل في الشيشان أو مالي أو سوريا أو العراق فكلها “أرض الله” وكلها “أرض الخلافة القادمة”.
وضمن هذا يضيع المكان بكل ملامحه وتضيع الذاكرة بكل تفاصيلها لأن المكان ذاكرة بالأساس: بيت الجد، منزل الابوين، منزله الخاص وصوت زوجته وضحكة ابنه، أو مكان جمعه بحبيبته في لقاء وجل، المدرسة والجامعة وأول مكان للعمل، القرية والمدينة وصور الناس والأقارب والأصدقاء ورائحة الطعام المميزة والموسيقى المنبعثة من دكّان والوطن كله يتلاشى تماما، فلا يحزن لفراق أحد ولا يبكي لشيء مطلقا، فمن ماتت فيه ذاكرة المكان مات حسّا ومعنى ولم يبق إلا وعاء فارغ يحركه الارهاب حيث شاء وجسد خاو يسهل تفخيخه وتفجيره. وهي مأساة حقيقية حين يعيشها شاب أو شابّة ثم يلقى به وسط اهله أحيانا وفي وطنه ليقتل من يعرفهم ويحبهم مطيعا أشخاصا لا يعرفهم ولا يعرف عنهم سوى أسماء مستعارة.
التمشي المكاني وما فيه من تغييب للمكان وذاكرته من أسرار استقطاب تنظيم الدولة ّداعش” لمجنّدين من كل اصقاع الأرض على اختلاف أمكنتهم وثقافاتهم لأن المكان حين تيم تغييبه والوطن حين يتم قتله داخل الذات يسهل الاستدراج وهذا ما على الدول أن تفهمه كي تراجع المنظومة العلائقية بين المواطن والوطن وبين الإنسان والمكان ضمن استراتيجيات عاجلة ومشروع آني لإيقاف النزيف.