3 دقائق للقراءة
أعني بالمفهوم العام الإطار الأوسع لموضوع بحثنا، فالإرهاب حين يتصل بالعقل يكون ذلك ضمن إطار عام ثمّ أطر صغرى أضيق وأدق. ويتعلّق المفهوم العام بالمكوّنين الأساسيين أي الإرهاب من جهة والعقل من جهة ثانية.
إن العقل خاصية إنسانية بامتياز، نظام تفكيك وتحليل وقراءة وتأمل وعقلنة واستنباط، لكن يُمكن أن تُعطّل فيه الآليات الفكرية والمنطقيّة والتحليلية، أو يتمّ العبث بها حتى لا تعطي نتائج حقيقية وهنا يصبح الوهم حقيقة وتصبح الحقائق أوهاما ويتخبّط ذلك العقل في سُجف الضلالات وسُدم الخواء والعقم والتحجّر والظلامية.
مبحث العقل مبحث فلسفي، وفيه أبعاد من المنطق إلى علائقه بالنفس والإنسان والفعل والإدراك والوعي وصولا للثقافة كبناء عقلي وللمجتمع لناتج للتعقّل الفردي والجماعي وللحضارة كخلاصة للعقلانية النيّرة. ولكن وباء الإرهاب واحد من أفتك الأوبئة التي تستهدف العقل، مع أدواء أخرى كثيرة كم تلاعبت بالعقول وكم دمرت من خلف ذلك من فرد ومن مجتمع ومن أمة.
لتقديم تعريف للعقل الإرهابي يمكن أن نقول بكل بساطة: (العقل الإرهابي هو عقل بُرمج على الإرهاب).
لكن هذا المعنى لا يكفي وحده، لأن جانبا مهما من العقل الإرهابي هو العقل الذي بَرمج على الإرهاب، بنسبة الفعل إليه. وهنا شبكة معقدة من العقول التي تدعمه وتبرر له، والتي تموّله، والتي تبرمجه وتفعلّه وتأمره وتفجّره في الوقت المناسب.
وإن دراسة المنظومات الإرهابية فيما نعلم من تاريخ الأرض كله، تُوصلنا إلى توافقات كثيرة وتشابهات عديدة، رغم اختلافات في جوانب من التفصيل، ولكن الذي يُبَرمج على القتل والتدمير يَخضَع لنفس المراحل تقريبا.
إن النازية فكر إرهابي قام في جانب منه على قداسة العنصر مع دنس بقية العناصر ووجوب تطهير العالم منها.كما قام فكر الخوارج على احتكار القداسة، ونفيها عن بقية المسلمين، وتبرير قتلهم من أجل ذلك. وهو ما تجدد فيما بعد بصيغ وأسماء مختلفة. وحتى القتل في الحروب المقدسة كان يبرر بزرع فكرة الدفاع عن الرب أمام أعدائه، وهذا ما يفسّر الدموية الكبيرة للحروب الصليبية والمجازر التي تمت فيها. ونفس المبادئ يزرعها الحشاشون في عقول أتباعهم. وضمن ذات الأطر تعمل تنظيمات القتل في جوانب من المافيا العالمية ولئن كان لها مخططات أخرى ودوافع مختلفة ولكنها تتواصل مع الإرهاب ذي الصبغة العقائدية والدليل الارتباط الوثيق بين تنظيم القاعدة والمافيا العالمية في تجارة المخدرات والأسلحة والتهريب والاتجار بالبشر.
ولربما كان كاليغولا في فورة جنونه، أو نيرون في حالات عطشه للنار والموت، أو جنكيز في مجازره الأشد دموية في تاريخ الحرب، أو مراد بوبالة في هلوساته وظمئه الشديد للدم، وكذلك الجنرال فرانكو وموسوليني وهتلر، وسواه من مجانين الحروب وعشاق القتل والدم، ربما أنهم جميعا يرضون ربهم الذي يتواصلون معه بأوهامهم التي أخذت صبغة الحقيقة المطلقة.
المفهوم العام يأخذنا إلى جذرين:
*الأول جذر لغوي يمكن أن نبين فيه أن مصطلح الإرهاب إنما هو دال شاسع زئبقي قد يتم استخدامه إفكا للتعبير عن نضال مشروع لشعب مثل الشعب الفلسطيني، فالصهيونية سعت لعقود كي تُقنع العالم أن محاولة التحرر الفلسطينية ما هي إلا إرهاب. وهو شاسع أيضا من حيث التوصيف فالإرهاب هو كل فعل يهدف إلى زعزعة دولة أو قتل فرد أو مجموعة لنشر الرعب والفوضى أو العمل الممنهج لتغذية الحقد والكراهية والعنف وثقافة الموت. لكن إرهاب الدول أيضا لا يجب التغاضي عنه مما يجعل صنيع الدولة الصهيونية إرهابا لا محالة. وكذلك يكون التطرّف يمينا أو يسارا مدخلا للإرهاب بل يصبح حين يتم تفعيله وتركيزه إرهابا مثل ما أسميته الإرهاب الأخلاقي أي محاولة نزع الأخلاق من الناس انتزاعا وزرع الشذوذ والفساد واحتقار الدين وغير ذلك.
*أما الجذر الثاني فيُعنى بالمعنى والفكرة في حدّ ذاتها، ليكون الإرهاب حينها مسارا من التطرّف إلى الهوس المرضي والتوهّم الذي ينتزع الفرد انتزاعا من معطيات الزمان والمكان والواقع ليلقي به في زمن ومكان وواقع من نسيج الوهم أو هو عالم افتراضي يدعي محاكاة فترة النبوّة، ولا يقوم إلا على انقاض العالم الفعلي، ثم يرمي حباله نحو الزمن الأبدي حيث اختلاف المكان والزمان والواقع ليكون الشاب الذي يريد إعادة نصاعة زمن النبوة الأول مطالبا بتحطيم زمنه الذاتي والنظر إليه على أنه عورة زمنية وتفجير مكانه الفعلي والنظر إلى أنه مكان موبوء بالموبقات ثم استبدال ذلك كلّه بواقع مثالي يعيد أزمنة مضت ويحيي أمكنة تبدّلت عبر العصور فإن فشل ذلك – وهو فاشل حتما – فلابد من البحث عن بديل في ما بعد الموت حيث الجنة وحورها وحيث يرتاح ذلك المجاهد بزعمه عن ذاته أو زعمهم له من واقع متعفّن لا يصلح ولا تصلح الحياة فيه. وضمن هذا المسار يكون الإرهاب قد استخدم ذلك البيدق بعناية وخرّب ودمّر ثم برّر لتدخّل قوى دولية ونهب الثروات وتمزيق البلدان.
هذا المفهوم العام يحتاج مزيدا من التفكيك ومزيدا من الغوص الذي يفضي إلى مكنونات أخرى للإرهاب وللعقل الذي يُبرمج عليه والعقل الذي يُبرمجه أيضا ضمن تمشيات محددة ومنطلقات معينة.