3 دقائق للقراءة
ليس الإرهاب مقاتلا يحمل بندقية أو انتحاريا يفجّر نفسه فقط، فتلك خلاصة التمشي الذي بدأه عقل مدبّر ووقع فيه عقل مدمَّر تمت السيطرة عليه عبر تمشيات وأنماط حتى صار مدمّرا. وما على الدول أن تدركه قيمة فهم أعمق لما يعيشه المستهدف من الفكر التكفيري وكل من حاصرته الافكار المتطرفة حتى سيطرت عليه وسلبته لبّه وكيانه. فليس الأمر ناتجا عن مصادفات، بل هو بناء شمولي دقيق يعمل داخل الإنسان، ويعمل ايضا داخل المجتمعات مستغلا الظروف الاقتصادية والبنية القيمية خاصة حين تكون تلك البنية متصدعة، فالتكفير الذي يعتمد التزوير يستثمر التعهير لخلق التبرير وتيسير التدمير وبلوغ التفجير. وهذا ما بينته في شرح نظريتي العامة .
إن العمل على تقوية الرابط المكاني والوطني وإحساس الوطنية والمواطنة وتقوية البعد الثقافي والحضاري والحضور الزمني والنضج الفكري والمناعة العقدية والحصانة الذهنية والروحية أمور لازمة لتحصين الشباب من الارهاب، وإن ضرورة فهم الرابط بين الوهابية كتيار تكفيري هدّام مهما كانت تقسيماته الظاهرية إلى علمية وجهادية وغيرها وهي تقسيمات حركية فقط بين مجرد الاعتقاد وتفعيله عبر السلاح، وكل ذلك مسالة مرتبطة بالوقت من جهة وبالإمكانات من جهة ثانية، لكن الجوهر نفسه وهو جوهر فاسد مُفسد حيثما حل حلّت الفتن وحاق بالناس الشتات والتشكيك العقدي وبالمجتمعات الفوضى والحرق والتدمير وصولا للإرهاب. وطالما لم يتم هزم المنظومة الفكرية التي تمهّد للإرهاب وتزرعه في الأذهان، وطالما لم يتم القبض على العقول المدبرة وضرب الشبكة التي تصنع الارهاب وتموله، وتحطيم المنظمة التي تغسل ادمغة الشباب مستغلة المساجد والجمعيات وكل ما يتاح لها لفعل ذلك، فسيظهر كل مرة ارهابيون جدد من أبناء وبنات هذا الوطن الحزين يَقتُلون ظالمين ويُقتلون واهمين.
وإن مناهج العلاج الكثيرة أمنيّا وعسكريا واقتصاديّا واجتماعيا وثقافيا وإعلاميا وتربويا وفنيّا لا يمكنها أن تنجح بعزل بعضها عن بعض إذ لا يمكن هزم الإرهاب بالبندقية فالبنادق لا تقتل الأفكار وقتل حامل فكرة نفّذها في عملية لا يعني منعها من التسرب مجددا لضحية آخر تحوّله إلى مجرم وإرهابي. العلاج عليه أن ينبع من الجوهر أيضا، وأن يكون أساسه الفكر النيّر والعقيدة الصحيحة وإحياء مدارس الإسلام المعتدل مثل المدرسة الزيتونية وما تمثله من منطق ومقاصد وتزكية، كما إن للتصوف الحقيقي دور مهم جدا في معالجة هذه الآفات من جذورها.
هنالك أبعاد كثيرة للإرهاب، تغذيه وتفعّله، من بينها الجوانب الإقليمية، والمطامع في الثروات، وهي جوانب شتى تجد نصيبا منها في الملحق الذي سأخصصه لجملة من دراساتي المنشورة والتي كان فيها جوانب التحليل والتنظير والاستشراف.
إن كل التمشيات هامة وكل الأبعاد خطيرة جدا، وكان بالإمكان تفكيك المنظومة أكثر، لكني أكتفي بمختزل لما أراه أهم وأخطر، مذكرا أن كل ما تقرؤه في هذا الكتاب إنما هو جهد شخصي وخلق للمصطلحات التي يمكن تطويرها والبناء عليها وإثراؤها، كما يمكن نقدها والتفاعل معها لمزيد الدقة والنجاعة.
وما يجب الوعي به، هو أن البيئة الحاضنة المساعدة يمكنها أن توفّر أبعادا ومنطلقات للإرهاب، ولكل فعل إجرامي، كما تخدم الفيروس الداخلي في تمشياته وتوغله وتحميه. ولقد ورد في التاريخ نموذج رائع يبين حسب رأيي قيمة البيئة والبعد الخارجي وتفاعلها مع التمشي، وهو يخص واحدا من كبار الاطباء وعلماء الكيمياء المسلمين، وهو أبو بكر الرازي (250-313 هجري/864-925 ميلادي). خبر ذكرته كتب كثيرة وكتاب كثر، وتجده في كتاب الفهرست لابن النديم، حيث يقول المؤلف عنه: كان الرازي أوحد دهره، وفريد عصره، قد جمع المعرفة بعلوم القدماء سيما الطب. والخبر أن وقد الخليفة العباسي المعتضد بالله استشار الرازي في أمر الموضع الذي ينبى فيه البيمارستان (المشفى) ببغداد، فأمر أن يعلّق في كل ناحية من جانبي بغداد قطعة من اللحم مدّة أسبوع، ثم أتوه بها، فوجدها قد تعفّنت إلا واحدة، فأمر ببناء البيمارستان فيها. وهي تجسد أن البيئة التي لم تتعفن فيها قطعة اللحم هي مكان مناسب للعلاج والنقاهة والشفاء السريع ومحاصرة الأمراض، في حين تكون الأمكنة الأخرى بيئة حاضنة للفساد والتلف المرض تساعد على سرعة انتشاره، فيكون المكان (البعد الخارجي) مساعدا على إفساد الجراثيم (التمشيات) لتلك القطعة من اللحم (عقل الضحية). وهو ما يفرض أن سبل العلاج تكون في تظهير البعد الخارجي ثم محاصرة المرض الداخلي ومنعه من أن يعدي أشخاصا آخرين، ويكون العلاج بتمشيات المرض وأبعاده أي فكريا وعقليا وذهنيا وعقائديا واجتماعيا واستراتيجيا، ولا يختصر على المعالجة الأمنية، لكن لابد من طبيب عالم عارف كأبي بكر الرازي يفهم طب العقول والقلوب والمجتمعات ويعرف كيمياء الطبائع والأفكار وتركيبة السم الإرهابي من جهة ثم تركيبة الترياق الشافي. ويكون الرازي رمزا لنخبة من الخبراء والعلماء تسندهم إرادة دولة وسياسة ناجعة ودعم إعلامي ومجتمعي.. ثم تنسيق إقليمي ودولي. أنه السبيل الوحيد للعلاج.
ختاما: هي محاولة أولية لفهم العقل الإرهابي من داخل منظومته البرمجية، ومن خارجها عبر أطر ومنطلقات وأبعاد الإرهاب نفسه. تعقبها محاولات أخرى تهدف كلها إلى حماية الشباب خاصة من السقوط في فخاخه المحكمة، وتحصين الدول من الاختراق الذي يعمل بشكل خفي ذكي ودقيق، لكن يمكن بالعلم والفهم والاستراتيجيات وبالتطبيق العملي لها أن نقلل من خطره حتى نقضي عليه تماما.