5 دقائق للقراءة
بعد شروحات كثيرة من منظورات مختلفة لنظريتي الثلاثية (التنظير، التكفير، التفجير) والتي تحققت مراحلها وثبتت دقتها، فإني سأشرح نظريتي العامة ضمن مصفوفة تحتوي النظرية الثلاثية كجزء منها ولكنها أعم وأشمل وأدق.
وتتعلق هذه النظرية بمسألة ترابطية بين أقانيم تتفاعل فيما بينها، ويمكن البناء عليها ودراستها عبر علم الاجتماع وعلم الأخلاق وعلم الديانة وعلم الاستراتيجيا وسوف أقوم بتفكيكها أكثر عبر هذه العلوم وغيرها.
التنظير: نظريات عامة وقواعد تنتج عن التفكير وهو نظر واستنباط.
يسلك التنظير طريقين:
1-التنوير وما يكون ضمنه من تحرير وتطوير وتغيير.
فتكون الأفكار والنظريات والقواعد وما يطوّرها من باب التنوير الديني وما ينضاف إليها من تأصيل وتفصيل وتأويل وتفسير. كل هذا غايته الأسمى تطوير فكر الإنسان وفهمه وتطوير حياته وعالمه وتغييره نحو الأفضل والأجمل والأكمل.
2-التزوير وضمنه التكفير والتعهير.
ينتجان التفجير و التدمير.
*التفجير: ناري فجئي: عبر الحرق والتفخيخ والحروب وما يجره التكفير من ويلات.
*التدمير: ترابي تراكمي: فكل أمة يغلب عليها الفسق والفجور والفساد تطغى عليها الطينية وتنعدم فيها الروحانية ثم تختنق تدريجيا وتتفكك بمرور الوقت ويخبو بريقها رويدا رويدا وتردم في النهاية وتطمر وتلقى في مزابل التاريخ وتنهار مبانيها وتضمحل معانيها..
يمكن للتكفير أن يشل التفكير ويوهم بالتنوير. ويستثمر كل المعطى الديني الذي جُعل لتحرير الإنسان من أصناف العبوديات السفلى وإخلاصه للعبودية العليا لله الواحد. والتكفير منظومة تبنى من أجل إقصاء الآخر المختلف ومحو التطوير الحضاري وطمس الألق الإبداعي ونسف التنوع الثقافي وتدمير كل بارقة للتغيير الإيجابي وغلق منافذ الفكر وإغلاق أبواب التطوّر وخلق خلايا حاقدة تدمر كل النسيج الحبّي الذي تنبني عليه الحياة الإنسانية في أرقى معانيها، فتعم الكراهية وتنتشر رايات الحرب وأجنحة الموت السوداء.
يمكن للتزوير أن يتحالف مع التعهير ليظهر بمظهر التحرير. فيكون التحرير حينها مجرد وهم، مشنقة للقيم وموت لذاتية الإنسان وحقيقته على عتبات الملذات الزائفة، وهذا يمكنه أن يمضي بعيدا مستغلا كل تطوير ليحدث التغيير نحو الأدنى والاسوأ، وهو معطى واقعي إذ استثمر المفسدون في التطوير العلمي الكبير لتكون لهم قدرة على النفاذ في العقول والأنفس وإحداث تغيير بنيوي في الذاتية الانسانية حتى بلغ الأمر ما بلغ من زواج المثليين واقرار ذلك في القانون واستشرائه بشكل يهدد تواصل الجنس البشري بشكل كبير مع ما يحدثه وبقية الفسادات من نضوب ديمغرافي وامحاق قيمي وكل هذا مخطط سلفا من منظري التعهير وأباطرة التزوير وإفساد نسق التفكير.
كي نختزل المسألة نقول أن التنظير (وهو نتاج للتفكير ومنتج لنمط منه) يتولّد عنه أمران: تنوير أو تزوير.
*التنوير: منهج وسطي معتدل قيمي راقي. ينتج عنه أمران: التطوير والتحرير، وهما منتجان للتغيير الإيجابي.
*التزوير: تحيّل على التفكير وتوظيف للفكر والنظرية ضمن نمط سلبي وسالب. وينتج عنه أمران: التكفير كتطرف في أقسى اليمين والتعهير كتطرف في أقسى اليسار. وهما منتجان للتغيير السلبي.
*التكفير: نمط مسبوق بتنظير يهيئ له (ما سبق شرحه في نظريتي (التنظير والتكفير والتفجير). فيشل نظم التفكير الإيجابي ويحفز نظم الانغلاق الفكري ويغيّب آليات النقد والتحليل والتمييز. ينتج عنه تفجير مؤدّ إلى خراب وتدمير. لأنه محفّز للكراهية قاتل للمحبة معدم للتعارف والتواصل الإنساني.
*التعهير: مصطلح جامع لكل الفسادات ومنظومات السلخ الأخلاقي والتجفيف المبدئي والإفساد القيمي، وهو باب خراب كبير، موصل للتدمير بالضرورة، لأن كل حضارة وأمة تخلت عن أخلاقها وآدابها واستشرى فيها العهر والفساد وما يكون معه من طغيان وذل وفسق وفجور ودمار للنسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والحضاري لأن الفساد متى استشرى لا يترك مجالا لا يدخله.
هنالك تفاعل بين كل هذه العناصر: التعهير يوهم بالتحرير والتطوير والتغيير الإيجابي.
التكفير يوهم بالتنوير والقداسة والقرب من الخالق وبالتحرير من قيود المادة وتطوير الإنسان روحيا ودينيا.
يعمل التكفير على الروح، فيسجنها في الأوهام المصبوغة بالقداسة.
يعمل التعهير على الجسد فيسجنه في الملذات الغارقة في الدنس.
التكفير يجعل الإنسان يتخلى عن ذاته لوهم الموت.
التعهير يجعل الإنسان يتخلى عن ذاته لوهم الحياة.
أعني بوهم الموت: توهم أن الموت هو الطريق نحو التحرر ونحو الحور العين ولكن عبر نسف الجسد وقتل المختلفين دون فهم حقيقي للغايات والأسباب.
أعني بوهم الحياة: توهم أن الحياة لذة فقط، وأن الحرية في الحياة هي انسلاخ من القيم، إلحاد بالله، ترك الجسد للمخدر والبغاء والغياب عن الوعي الإيجابي والفعل الحقيقي.
التكفير كثيرا ما يستخدم التعهير ولكن ضمن تطوير وتغيير للغلاف: يتم تعويض لفظ بغاء بلفظ يلتحف بالقداسة فيكون جهاد نكاح. ويتم تبرير كل أنواع الفساد بأنها تخدم الغاية التنويرية أو التحريرية العليا (خدمة الله أو إقامة دولة الخلافة على منهج النبوة التي ستحرر أرض الإسلام).
يمكن بناء هذا النموذج وفق ديانات أخرى وأنماط مختلفة. ففي منهج التكفير أقترح الرجوع إلى مذبحة سان بارتيليمي (يوم القديس برطلماي باريس 24 أوت 1572) التي تم فيها ذبح أكثر من ثلاثين ألف من البروتستان على يد السلطات الكاثوليكية “والمتعصبين من الكاثوليك” وقيل بلغ العدد ستين ألفا. والنماذج الأخرى كثيرة.
نموذج التعهير وآثاره يمكن النظر في نماذج قرآنية تاريخية مثل قوم لوط، والقياس عليها لأن لها نموذجا مكرر اليوم بشكل أكثر امتدادا وعددا. وهنالك شواهد من الواقع ومن التاريخ كثيرة على أثر الفساد في زوال دول واندثار شعوب، والنظر في مستوى النمو في الدول الغربية (بعضها أدنى من 0.12 وسببه الأساسي الفساد والشذوذ الي أدى للعزوف عن الزواج وقلة النسل) وآثارها المرتقبة التي قد توصل للانقراض بعد مئة عام دليل على ذلك.
يبقى أن نشير إلى أن كلا من التكفير والتعهير يستغلان التفقير ويستخدمان التبرير.
*التفقير:هو الخواء المعرفي والقيمي والتربوي والديني. وهو مدخل للتكفير الذي يستغل الجهل والتصحر الديني، وللتعهير الذي يستغل الضعف القيمي والتربوي والديني أيضا. وتكون مداخل للإلحاد من جهة وللتجسيم من جهة ثانية ولمختلف أنماط الفساد الماسخة والسالخة لكينونة الإنسان وروحه وحقيقته.
*التبرير: عبر إيجاد المبررات والمسوغات هذا عن طريق استخدام الدين والآيات القرآنية والأحاديث بشكل مسقط مزور. وذاك عن طريق استخدام التفلسف المضلل والتزييف والكلام عن الحرية وعن نسبية القيم وغيرها من مخزون الفلسفة العندية السفسطائية.
يمكن للتعهير أن يخدم التكفير عبر الارتداد: يفر ضحية التعهير بلوثات في نفسه فيجد في انتظاره التكفير ليكفّر بذلك عن ذنبه ويكفّر بعد ذلك جميع الناس ويزداد حقدا، وهذا من أسباب انتشار التيار التكفيري في دول الغرب ونجاحه الكبير في تونس على سبيل المثال.
وأعتقد أن التاريخ البشري والواقع المعاش يثبتان الإنسان يعيش بين التنوير وما يكون ضمنه من تفكير وتطوير وتحرير، والتزوير وما يشمله من تكفير وتعهير وتدمير وتفجير. كما أن الانهيار والتدهور الحضاري قابع بين تكفير وظلامية وكفر بالفكر والتجدد والتحاف مدنس بالقداسة الوهمية، أو تعهير وفساد يتسلل إلى كل شيء ويخرب كل شيء. وما من طاغ حكم أو باغ ظلم إلا وخلفه من يكفّر خصومه ويلبسه تاج الأقداس، ويعهّر رعيته ما استطاع لأنه من اليسير التحكم في ألف مخدّر بالفسادات والضلالات في حين يصعب الحكم في منوّر واحد. وهو لأجل ذلك يحترف التزوير ويتعمّد التفقير والتصحير ويختلق التبرير. ولكل مفهوم من هذه المفاهيم مصفوفات داخلية وشروحات عميقة ونماذج تطبيقية وشواهد وأدلة وبراهين.
إنها نظرية عامة للوجود البشري تتخللها تمفصلات أخرى دقيقة، فما الحياة البشرية عبر تاريخها إلا صراع بين المنوّرين والمزوِّرين، المفكّرين والمكفّرين، العاملين من أجل التطوير، والساعين نحو التدمير.
سوسة10/07/2014 11:38 ص