2 دقائق للقراءة
من الأمور المحيّرة في الذات البشرية: قوى الحقد والحسد الكامنة.
كيف تفعل بصاحبها، وتجعله يهذي، وكيف تعميه عن أي فضيلة في من يحسده ويحقد عليه، وتلقي به في المهالك وهو يظن أنه يهلك عدوه، وما أهلك إلا نفسه.
إن إبليس كان من العارفين الكبار زمن عبادته الطويلة وترقيه حتى بلغ مصاف الملائكة، لكن نقطة الحسد السوداء في قلبه نقلته من عبد الإله الرحيم، إلى الشيطان الرجيم، وكذلك من مسّتهم لوثته واصطبغت نفوسهم بنفسه، من ولد آدم الذي حسد أخاه فقتله، إلى حسدة الأنبياء والصلحاء والحاقدين وأهل الجحود أجمعين، يتبع بعضهم بعضا تشابهت قلوبهم.
ولكن الثابت كما قلت مرة في كتابي إشراقات: “يود الحاسد لو كان سالبا، لكنه مسلوب بمجرد من حسد”، فالحسد سلب لا سلب بعده، والحاسد سلبي جبان، ولئن تعالى صوته بالشتم والهُجر والفُحش، وكلما كان كلامه أكثر تجريحا كلما كان ضعفه أشد عمقا وجبنه أكثر تأثيرا عليه.
الشجاع لا يحسد. الحر لا يحقد. الذكي حقيقة لا يتآمر: بل يبني ويتعلم، يقر لصاحب الفضل بفضله ولو اختلف معه، يحارب لأجل المبدأ، ويعادي في الله إن استوجب العداء، لكن بحجة وبيان وبرهان وبيّنة لا بالتهجم والتهكّم والادعاء.
الأبيّ حقّا والمفلح حقيقة وصاحب النفس الصافية: يتعلّم وينافس بجدارة، يتحدّى ولا يستسلم، نصب عينيه غايات عالية ومكانة غالية، يدفع ثمنها بسهره وتعبه وكدّه، ولا ينظر نظرة حسد لمخلوق ولو آتاه الله ملك الثقلين، لأنه يعلم أن الفضل كله من الله، وأن الخير بيد الله يؤتيه من يشاء، وأن حسد صاحب النّعمة اعتراض على المنعم، وتشكيك في حكمته، واستعلاء على حكمه، ومن يملك من الله شيئا أعطى أو منع، خفض أو رفع، أعزّ أو أذل، أغنى أو أفقر، وصل أو قطع.
بل التسليم له والتوكل عليه والاعتزاز بكل ما يهب، والاغتناء به عن سواه، والرضا بما قسم، والقَبول بما قدّر، والنّزول لما قضى.
فمن تأدبت بذلك نفسه، وامتلأ به صدره ورأسه، كان له العز الذي لا ذل بعده، والوصل الذي لا فصل بعده، ومن أبى واستكبر أذله الله بما أعطاه، وأفقره وإن في ظاهر الأمر أغناه، وفي سِيَر السابقين وسيْر الأوّلين عبرة لمن اعتبر.
وهبنا الله الفهم.
(مازن الشريف: هكذا تكلم المعلم)